عن الـ "لا محكي" في العلاقات اللبنانية-السورية

لطالما شكلت العلاقة الملتبسة بين لبنان وسورية كلبلدين, واللبنانيين والسوريين كشعبين, ولبنانيين وسوريين كأفراد وجماعات ذات ميول متوافقة حيناً أو متباينة حيناً آخر أحد ابرز الـ "تابوهات" التي أفرزتها ثورة 2011. فالرواسب التي خلفتها ثلاث عقود من "الوصاية" السورية المباشرة على لبنان أكثر تعقيداً وتركيباً من أن تتم مقاربتها بعجالة أو تحت وطأة الحدث الساخن سيما وأن أي مصالحة وطنية لبنانية- لبنانية حيال الحرب الاهلية لم تبدأ بعد. بل طويت الحقبة كلها وطمرت تحت البساط عبر اتفاق متسرع لوقف اطلاق النار هو اتفاق الطائف (1989) أتبع بعفو عام  شمل أمراء الحرب ومجرميها ومشغليهم من جهات محلية ودولية. لتنطلق مسيرة الاعمار, مرة أخرى برعاية سورية وسطوة من نوع آخر.

ومن نافل القول إن ذلك كله, وغيره الكثير هو من "المحكي" والمكتوب والمعلوم في العلاقة بين البلدين, فيما الـ "لا محكي", يذهب أبعد من البحث في الارشيف الدبلوماسي والعسكري والسياسي المعلن, الى ذلك الاهلي والمجتمعي الذي كان يفترض أن يشكل لبنة قواسم مشتركة كثيرة بين فئات متشابهة من ابناء البلدين, أقله ممن يتشاركون هم التحرر والانعتاق من نظام الاسد ويلتقون عند مفاهيم المدنية والعلمانية والمواطنة. وإذا توافقنا على اعتبار إن "المسكوت عنه" هو مما نعرفه ونتواطء على كتمانه, وعدم الافصاح عنه أو افتعال مناسبات إشهاره حجة أو سلاحاً في وجه بعضنا البعض, فإن الـ "لا محكي" على ما تزعم هذه المقالة هو ذلك الذي لا ندركه أصلاً وإنما قد تشبعنا منه فبات أشبه بفطرة ثانية فينا. كتلك الصور النمطية المتبادلة والعلاقات المسممة بين المجموعات والافراد, التي استحالت بغالبيتها قناعات متجذرة وقيماً تلقائية (غير مدركة) تتوارث من جيل الى جيل. وهو في الواقع مما اشتغل عليه نظام البعث شغلاً حثيثاً وغذاه واستثمر فيه سواء في سورية أو في لبنان, بحيث نجح في استمرار شيطنة كل طرف للطرف الآخر.

كثيراً ما نسأل كصحافيين وكتاب لبنانيين وقفنا مع الثورة مع السورية منذ انطلاقتها عن سبب انكابنا على تناول الشأن السوري بتفاصيله, تغطية وكتابة وتحليلاً بدل الاكتفاء بإباداء موقف سياسي والسلام. وإذا ما شاب عملنا انتقاد او اختلاف في الرأي او وتباين في جهات النظر وإن من ضمن الخط السياسي الواحد, ترافق السؤال بتمنيات ضمنية او علنية بافضلية الانكفاء الى شؤوننا المحلية وترك الثورة وناسها وشأنهم. لكن الاجابة على ذلك التساؤل وتلك التمنيات بسيط, وهو إننا كلبنانيين, حين نكتب عن سورية, فنحن ايضاً نكتب عن أنفسنا وأحوالنا, وعن بلدنا الذي لم يستقل يوماً عن جارته الكبرى استقلالاً ناجزاً. وبهذا, نكون نكتب ايضاً عن سلطة واحدة ظلمتنا, لبنانيين وسوريين, وان بنسب وطرق مختلفة. فالوصاية السورية على لبنان دامت نحو 30 عاماً متواصلة ومترافقة بانتشار عسكري على الارض, وتدخل يومي في الحياة العامة والخاصة. فعلى سبيل المثال, لعبت أفرع الامن السوري ولفترات طويلة دور المخفر لحل نزاعات الافراد أو إذكائها, في المناطق التي أخضعت بشكل كامل. ومن أوجه الاخضاع كان رفع تماثيل لحافظ الاسد وسط الساحات العامة في البلدات والمدن لا سيما تلك التي أظهرت تمرداً أو مقاومة, ثم كان إحياء "الاعياد الوطنية" السورية باعتبارها مناسبات لبنانية أيضاً. وذلك وغيره الكثير ليس بالتفصيل العابر ولكن, إذ يترسخ مع الوقت بصفته أمراً واقعاً, يعاد ويحال الى الـ "لا محكي".

والحال إن الاختلاف حول انتزاع الاعتراف بتلك "المظلومية" إن جاز التعبير وخصوصيتها المحلية من دون التسابق عليها, هو أحد ابرز تجليات ذلك الـ "لا محكي". فلا اعتراف متبادل ولا رغبة أصلاً بضرورته كشرط أولي لتنقية الذاكرة وتخفيف حملها.

ثمة مثال حديث ومعاش يمكن التطرق اليه لما يحمل من دلالات تندرج في هذا السياق. منذ مدة وأنا أعمل الى جانب مجموعة بحث على صياغة تقرير يتناول ابرز الانتهاكات ضد الانسانية التي ارتكبت في سورية بين 2011 و2017,  وذلك الاعتماد على تقريرين مشابهين يتناول أحدهما الحرب اللبنانية وثانيهما حرب الكونغو, كنماذج كتابية محتملة. فكان أن تناولنا كمثال, الفصل حول حرب الجبل في لبنان والمجازر المتبادلة بين المسيحيين والدروز والتهجير القسري, بهدف اقامة مقارنات قد تسهل على الباحثين عملية الكتابة والصياغة لمسودات فصول حول انتهاكات شهدتها مناطق في سورية كالمجازر بين العرب والاكراد مثلاً, أو السنة والعلويين.  جاءت ردة الفعل غير متوقعة. بداية نشب خلاف حول ما إذا كانت تلك "مجازر" أو "مجرد اشتباكات طائفية إضافية, في سياق الحرب الاهلية اللبنانية", علماً إن النقاش السابق كان يصب حول اعتماد عتبة بين 5 أو 10 اشخاص لتعريف المجرزة في سورية. الاستعانة بالارقام الهائلة لضحايا حرب الجبل والتي ناهزت المئات, لم تكف لاقناع باحثين وجلهم من القانونيين بأن ما جرى هو مجزرة موصوفة. البحث عن النسبة والتناسب بين عدد الضحايا وعدد السكان (عدد سكان لبنان خلال الحرب قارب 3 مليون) لم ينفع ايضاً. ذلك كان بحسبهم "تسلسلاً طبيعياً لحرب طائفية"! اللافت أكثر كان رغبة الباحثين الاعتماد على تقرير الكونغو كنموذج كتابة, بحجة إنه أكثر وضوحاً ودقة. هكذا, استحال البلد الافريقي الأبعد والذي لا سابق معرفة للباحثين به وبنزاع قبائل الهوتو والتوتسي الذي دار فيه ومزق نسيجه الاجتماعي, أقرب اليهم من بلد هو عملياً باحتهم الخلفية الصغيرة وامتداد طبيعي لجرافياتهم وبعض عائلاتهم. أضف إلى ذلك, إن الاسماء الواردة في تقرير لبنان والتي اقترفت تلك الانتهاكات في زمن الحرب الاهلية, لا تزال هي نفسها تتردد اليوم بصفتها الطبقة السياسية الحاكمة, التي لا تنتهك بذلك السيادة اللبنانية فحسب, وإنما لا تزال تربطها علاقات تحالف وشراكة وخصومة متقلبة مع النظام السوري نفسه. وعليه, إن لم يفد تقرير لبنان في شيء, كان على الاقل ليسلط الضوء على امكانيات السياسة الدولية التصالح مع مجرمي الحرب, وإعادة تدويرهم بصفتهم متن البنية الاقتصادية الاجتماعية السياسية (المحلية) ثم تقديمهم لشعوبهم كحماة لسلم أهلي مفتعل. ذلك طبعاً في مواجهة قيم المحاسبة والاحالة الى العدالة الدولية التي يفترض أن تقارير كتلك تسعى الى اقرارها. لكن, مرة أخرى يبدو "الحكي" في قضية بعيدة عاطفياً ونفسياً كالكونغو متاحاً ومقدوراً عليه, فيما نزاع دموي مجاور يحال تلقائياً وبغير قرار الى خانة الـ "محكي".

وإلى ذلك تبوء بالفشل محاولات كثيرة للتقريب بين وجهات النظر عبر مقارنة سلوك النظام السوري في كلا البلدين, ولا سيما لجهة أساليبه العقابية وتطويعه المدن والجماعات والافراد المنتفضين عليه. فمن الاعتقال الى الاختفاء القسري وصولا الى الاغتيالات والتصفيات المباشرة أو عبر التفجيرات وارسال سيارات مفخخة, كله مما يحال الى خانة "الحرب الاهلية", حتى حادثة كمجزرة منطقة باب التبانة في طرابلس (بدأت على مراحل منذ 1984 وكانت ذروتها في 1986) المشابهة بكافة تفاصيلها لمجرزة حماة الشهيرة (1982) والتي اودت بمئات الرجال والشباب الذكور المنتمين او المتهمين بالانتماء الى حزب التوحيد (الاسلامي) عبر تصفيات علنية في الشوارع ثم ابقاء الجثث أياماً من دون السماح بسحبها ودفنها, إلا وقد تعفنت, حادثة كتلك لا تنال اعترافاً خارج سياق "تجاوزات" النظام السوري في لبنان. وإذا سلمنا جدلاً بأن تلك أحداث قديمة نسبياً وربما منع الاطلاع عليها غياب الاعلام, لكن النهج العقابي الذي اعتمد في لبنان على إثر المظاهرات التي خرجت تطالب بجلاء الجيش السوري وهو ما تم في 2005 كان استمراراً لذلك النهج السابق المعتمد نفسه. فيكفي أن نستعرض عدد الاغتيالات والتفجيرات (14 في 2005 وحدها!) وكان آخرها في 2013 أي بعد سنتين من انطلاق الثورة السورية! 

تلك وغيرها مما ليس السياق لذكره أمثلة تدعو الى التفكير الجدي في المعوقات التي تقف أمام انتزاع اعتراف متبادل بين ضحايا عابرين لحدود البلدين. فقد كان يمكن لذلك أن ينشء تعاضداً وتماسكاً وربما مجموعات عمل وضغط أكثر تنظيماً إن لم يكن تيارات أو أحزاب (كما جرى في الحالة الفلسطينية)’ عوضاَ عن البون والتباعد أو لقاءات متفرقة هنا وهناك. أوليس غريباً أنه حتى الآن لا إطار عمل مشترك يجمع متضررين من البلدين يفترض إنهم متشابهون الى حد بعيد فكرياً  واجتماعياً وسياسياً؟ نقول متضررين لفصلهم عن المستفيدين وهم كثر بطبيعة الحال من الجانبين, ولكن ايضاً على اعتبار إن كل من وقف ويقف ضد نظام البعث في سورية ولبنان, هو سلفاً متضرر من بقائه تحت نمط حكم على تلك الشاكلة. وربما تكون الخطوة الاولى لعبور ذلك الجسر هي مقارعة ارثنا الثقيل الـ "لا محكي", لعلنا نحيله يوماً الى مرويات وسرديات مكتوبة ومحكية.